رسالة مفتي استراليا أ.د إبراهيم أبو محمد في نهاية ولايته الثانية





رسالة مفتي استراليا أ.د   إبراهيم أبو محمد في نهاية ولايته الثانية

ويرفض التمديد له لفترة ثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين وبعد

 سيدى سماحة المفتي الجديد، أبارك لك هذا الاختيار الموفق وأدعو لك بالتوفيق والسداد، وأقول للإخوة الذين ترشحوا ولم يحالفهم الحظ، لقد انتصرتم أيضا حين اخترتم الديموقراطية والانتخابات وسيلة للتغيير.  

هذا اليوم هو يوم من أيام المجد للمجتمع المسلم الأسترالي ولشيوخه وأئمته وعلماء استراليا عموما.

1.       أيها السادة العلماء لقد ظن بعض الناس "خطأ" أن تولى الشخص لموقع كبير يصنع منه شخصية عظيمة، المواقع لا تصنع رجلا، وإنما المواقف هي التي تصنع الرجال، وتمجد سيرتهم وتخلد ذكراهم دائما حتى بعد أن يتركوا مواقعهم، وحتى بعد أن يغادروا هذه الدنيا، فلنتذكر ذلك جيدا ولنصحح مواقفنا  لكي نسمو ونرتفع بمواقعنا . وأشكر كل الزملاء الذين أبدوا رغبتهم وكانوا مصرين على تغيير الدستور وبقائي في المنصب لفترة ثالثة لأن الدستور ليس قرآنا يتلى كما قالوا، ولكني رفضت ذلك بشدة ورجوتهم،بل وتوسلت إليهم ألا يفعلوا ذلك لأمرين اثنين :

الأول : أن أوجه رسالة للمسلمين ولغير المسلمين وللعلماء والعامة أننا نحترم الدستور ونحرص على تأكيد مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص،   وأننا قد اخترنا الديموقراطية وسيلة للتغيير ، ونحترم قواعدها وقوانينها وأن وجودنا في استراليا ليس فقط إضافة أخلاقية ودينية ، وإنما إضافة حضارية وديموقراطية أيضا .

الأمر الثاني: أن يكون شخص المفتى مثالا للعالم الشريف الذي ترفعه المواقف لا المناصب ، ويعلو به علمه وفكره  وأداؤه،  الحضاري وليس موقعه ، ثم إني لست زعيما يتشبث بالكرسي ويبقي في المنصب حتى الموت أو العزل، وإنما أنا قبل أن أتولى الإفتاء أكاديمي عاشق للدعوة مسكنون بالثقافة والفكر كتابة وخطابة وتأليفا،  وقد اشتقت إلى العودة لهذا الميدان لأخدم فيه. 

وأمر ثالث أكثر أهمية أردنا أن يشهد التاريخ أن مفتي استراليا ومعه مجلس الأئمة بأعضائه والمنتسبين إليه ليسوا تجار شعارات وإنما هم أكثر المؤسسات الإسلامية حرصا على السلم العام، وأكثر المؤسسات الإسلامية حرصا على وحدة الجالية المسلمة ومؤسساتها من الفتن والتقسيم والشرذمة، وليسجل المجلس بأئمته ومفتيه موقفا يثبتون فيه بأننا كبار.  

        ولن نكون كبارا إلا بخدمتنا لديننا وولائنا له، لن نكون كبارا إذا سمحنا لأطماعنا ورغباتنا وللعصبية القبلية أو الجنسية الضيقة أو الطائفية الممقوتة أن تحكم عقولنا وتقود مسيرتنا فقد نبهنا إلى خطورتها نبينا حين دعانا أن نتركها لأنها جاهلية ولأنها منتنة. 

        لن نكون كبارا إلا إذا اعتمدنا أولوية ديننا وخدمة مجتمعنا الإسلامي وحفظنا على التوازن بين قيمنا وقيم المجتمع الكبير المجتمع الأسترالي الذي نعيش فيه ونعتز به.

لن نكون كبارا إلا إذا أدركنا بالوعي خطورة التشرذم والانقسام وحافظنا على وحدة جاليتنا وألا يستجيب بعضنا لدعاة الإثم والسوء والبذاءة والرويبضة أن يدلوا بآرائهم في أمهات القضايا العلمية، وأن يتدخلوا بين إمام وأخيه.

o        أيها السادة العلماء ، لقد كنت خلال مدة ولايتي للمنصب مصرا على تحقيق الفرق بين الوجود والحضور، أن تكون موجودا فهذا يعني أنك مجرد رقم في العد والإحصاء بالزيادة أو بالنقص لا فرق، بينما أن تكون حاضرا فهذا يعني أنك جزء من المعادلة وأن لك حضورا مشهودا وأن لك بصمة وتأثيرا وأن الآخرين يحسبون حسابك  ويقدرون حضورك  ويعلمون يقينا أن غيابك وتجاهلك مشكلة ، وأن حضورك  جزء من الحل في أي مشكلة أو أزمة، و لذلك كان شخص المفتي وأنتم شهود الإثبات على ذلك، وكذلك كان موقع المفتي وقلمه ومكتبه نصيرا لقضايا العدالة داخل محيط مجتمعنا في استراليا وحتى في خارجه، فلم ننفصل عن قضايا أمتنا الإسلامية ، ولم نحبس في محطينا الديني فقط  ، وإنما أسسنا علاقات محترمة مع كل التمثيل الدبلوماسي لسفارات الدول العربية والإسلامية في استراليا ، وبنينا صداقات متينة لا زالت  مملوء بالمحبة والاحترام وتقدير دور المفتي ورسالته.

        خلال هذه المدة أقمنا مع قادة ورؤساء المؤسسات  الهامة في الدولة ورجالها  على مستوي الوزارات في الأحزاب المختلفة وبخاصة الثلاثة الكبار الحزب الليبرالي الحاكم وأحزاب المعارضة حزب العمال وحزب الخضر بنينا علاقات بناءة  ومحترمة ، وشيدنا  جسورا مملوءة بالتفاهم والاحترام والتقدير ، وقد حرصت خلال فترة وجودي في موقع المفتي أن ألا أكون فقط عالم دين كبير يشكل رمزا ورأسا ومرجعية دينية كبرى فقط ، وإنما أردت أيضا أن أثبت أن عالم الدين والرمز الإسلامي الكبير يمكن أن يكون رجل دولة من الوزن الثقيل،  فتحاورنا مع الجميع  واختلفنا في أقل القليل، واتفقنا في الكثير من الأمور وتفاهمنا وتم ذلك كله لا من موقع التابع المتلقي وإنما من موقع الشريك في حماية ورعاية مصالح  ديننا ودولتنا ، وبهذه المناسبة أوجه تحية تقدير وشكر لقادة الأحزاب وأعضاء البرلمان والسينتورز  وقادة  المؤسسات والأجهزة المختلفة  الشرطة ورجال القضاء  والإعلام  وأنوه هنا أنني في لقاءاتي معهم كنت حريصا أشد الحرص بأن أحفظ لموقع المفتي مكانته السامية ، وبأن يكون خطابي شديد القوة ، شديد العزة والاعتصام بالله، شديد المنطقية ، وشديد الأدب.

        ولعل هذا هو الذي رشح مفتي استراليا ممثلا في شخصي الضعيف وعلى مدار مرتين خلال فترة ولايتي ليكون في المرة الأولي في المركز السابع والشخصية العربية الوحيدة ضمن خمسين شخصية هي الأكثر تأثيرا في المجتمع الأسترالي.وكان ذلك في عام 2013

        بينما في المرة الثانية في عام  2015 كان ترتيب المفتي هو رقم 11 ضمن أكثر مائة شخصية هي الأكثر تأثيرا في المجتمع الأسترالي.   

        أيها السادة، كان لنا مع بعض وسائل الإعلام أيضا جولات، ومن هذه الجولات حققنا صداقات مع الشرفاء منهم الذين يحرصون على الحقيقة ويؤمنون بالتعددية الثقافية ويحترمون الحريات.   

        ودخلت في صراع مع بعض وسائل الإعلام بعد أن هاجمتني بغير حق، وانتصرت، وكان سندى في تحقيق هذا الانتصار هو الحقيقة، ووقوفكم بجانبي، وبراعة فريق مكتب المحاماة برئاسة المحامي النابه الأستاذ مصطفي الخير ونزاهة القضاء في استراليا. ولذلك أوجه إليكم وإلى مكتب المحاماة وإلى القضاء الأسترالي كل التحية والتقدير. 

        سيدي المفتي الجديد أيها السادة العلماء والأساتذة الحضور.

خلال هذه المدة كثرت الادعاءات المزيفة التي حاولت أن تزج بالإسلام العظيم في مجال التطرف وأن تلصق به تهم الإرهاب والعنف فكان مكتب المفتى وموقعه بالتعاون مع مجلس الأئمة سدا منيعا دون تصديق هذا الزيف ولم نتوان لحظة في إدانة وتجريم كل فعل مشين، كما كانت رسائل المفتى ضوءا كاشفا لكل التزييف وسيفا حادا ومنطقا حاسما في دحض تلك الأكاذيب  ومن اليوم سأعود إلى ميداني الذى أحبه ضمن ميادين الخدمة وهو ميدان الكتابة والمحاضرات والتأليف والنشر، وستكون كل جهودي لخدمة الدين الذي آمنت به وشرفني الله بالا نتساب إليه ، ورفع هامتي وقامتي بين الأمم، وملأ قلبي حبا للوطن والإنسان وشغل عقلي ووجداني  بقضايا البشر وحقوقهم في الحرية والعدالة والكرامة بصرف النظر عن الدين أو اللون،

        وأرجو أن تسمحوا لي أن نوجه شكرا خاصا إلى الأخوة الشرفاء أبناء هذا الوطن العزيز أستراليا من غير المسلمين الذين يؤمنون بالحرية والعدالة، وأن البشر متساوون في الحقوق والواجبات، فباسمي وباسم كل المسلمين في استراليا أشكركم لرفضكم الشديد لدعوات العنصرية والتعصب وردودكم المفعمة بالعاطفة والعقل على دعاة الكراهية ،وأذكركم أيها  الشرفاء من أبناء أستراليا وكل الشرفاء في العالم بأن المشروع الإنساني برمته في خطر شديد ويحتاج إلى تعاونكم ووحدتكم حيث بلغ غرور القوة  مداه فلم تعد تعمل إلا للتمزيق والتفريق والعبودية، ومازالت تمارس القتل الممنهج ضد شعوب  تحملت من المعاناة مالم يقبله أحرار البشر في القرن الواحد والعشرين، وليس من المقبول دينا ولا من المعقول شرفا ومروءة أن نوجه وجوهنا نحو الله بينما ندير ظهورنا للمظلومين في الداخل و الخارج معا ، في فلسطين وسورية  وبخاصة في الغوطة  والروهينجا ومانيمار وأراكان، كما لا يجوز للشرفاء والأحرار من أبناء استراليا أن يظلوا صامتين عما يحدث  للمحتجزين في مراكز اللجوء ، فكرامة البشر أعلي وأغلي من المصالح الحزبية وأجندات السياسة ، ومن ثم فقد آن الوقت ليتحدث الشرفاء. 

        أقدم كل الشكر لمن ساعدوا وساندوا من أبناء جاليتنا الإسلامية جمعيات ومنظمات، ومراكز ومساجد ولمن وقفوا مع مكتب المفتي ليؤدي دوره ورسالته من الأخوة الأئمة والعلماء أعضاء المجلس جميعا وفي مقدمتهم الشيخ شادي والشيخ عبد السلام زود والشيخ خالد طالب والشيخ محمد خميس والشيخ طاهر والشيخ أبو عدنان والشيخ عمر البنا وبقية المشايخ الفضلاء.

        كما أخص بالذكر  أيضا الأستاذ سمير بن قاضي والمهندس مخلص صلاح والمهندس إياد أبو عرجة والمهندس سعيد عطا الله، وشكر خاص للمحامي الأستاذ عبد الله الرحال الذى كان أول من تولى مدير مكتب المفتي في الدورة الأولى وكذا المهندس عبد الله العزاوى والمهندس حسام البطيخي والدكتور عرفة يحي والأستاذ حسني السيد والأستاذ معاذ الحاج والأستاذ إسماعيل سرداح والمهندس ناصر الخطيب والأستاذ محمد شناق والشيخ عارف شاكر والشيخ أحمد عبدو  ثم المحامية الأستاذة سروي عبد الرحيم التي قامت بأعمال السكرتيرة ومديرة مكتب المفتي وكذا المحامية الأستاذ رامية عبدو والتي تولت مهمة الأستاذة سروي أثناء سفرها والأخت بث ريتش التي تولت تنسيق الحوار بين مكتب المفتي ورؤساء ة الأديان في استراليا. وأخص بالشكر كل هؤلاء القادة الذين ربطتنا بهم صداقات وبنينا علاقات محترمة وعملنا معا مع الأتباع على حفظ السلم الاجتماعي وحماية وتنمية التعددية الثقافية والدينية والحضارية.

        أيها السادة العلماء، لعل هذا يكون مستغربا أن يصدر من مفتي أكرر أقدم خالص شكري وتقديري  لسلطانة قلبي الدكتور نهلة الغزاوي صاحبة العقل الراشد والرأي السديد والإدراك الواعي  التي وقفت بجانبي وكانت ولا زالت نعم الزوجة والصديقة والمشيرة .

        كما لا يفوتنى أن أشكر أسرة إذاعة القرآن الكريم ومجلس إدارتها وكل العاملين فيها على تعاونهم مع مكتب المفتى.

        هناك أيضا جنود مجهولون أعرف أنهم لا يريدون أن نذكر أسماءهم، لأنهم يعملون للإسلام بعيدا عن الظهور والشهرة سأحترم رغبتهم، لكنى أفوض الله ربى أن يجازيهم خير الجزاء، وأن يرفع أقدارهم في الملأ الأعلى.    

        طبتم وطاب مساعكم، ورزقكم الله السداد والتوفيق وصلاح الحال والمآل. أشكركم مرة أخرى وندعو الله أن تنعم كل شعوب الأرض بنعمة السلام والأمن، وأن يحفظ الله استراليا ـ بشرا وأرضا ـ من كل سوء وشر. وأن يطهر مجتمعاتنا من جراثيم التطرف والكراهية والعنصرية. وليبارك الله جهودكم ليبقى الإسلام كما عرفناه وأمنا به وتعلمناه، إشراقا يحتضن الدنيا .... ونهارا لا يعرف ليلا.

والسلام عليكم ورحمة الله. 

 

 

 

إزاحة تيلرسون تعزيز لمعسكر الحرب وكيسنجر في الخلفية

        غياب وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون، إقالة أو استقالة، كان متوقعاً منذ الصيف الماضي؛ وسربت سرديات حول حتمية إقالته قيل أن البيت الأبيض هو المسؤول عنها بغية أحراجه وإهانته. بيد أن توقيت "إقالته" جاءت بالتباين مع بعض "الانجازات" الديبلوماسية، لا سيما في الإعلان السريع للرئيس ترامب موافقته للقاء رئيس جمهورية كوريا الشمالية وجهاً لوجه، في نهاية شهر أيار/مايو المقبل؛ وكذلك في أعقاب تجديد مصادقته "المشروطة" على الإتفاق النووي مع إيران.

        الثابت المتداول في العاصمة واشنطن هو التمايز الشديد بين آلية تفكير ومواقف النقيضين: الرئيس ترامب ووزير خارجيته. إذ اتسمت الفترة الزمنية القصيرة للوزير بالإضطراب، "واضطر" إلى نفي وجود خلاف مع الرئيس ، عقب تسريب "بعض كبار المسؤولين" لوصفه الرئيس ترامب بـ "الأحمق / البليد / المعتوه؛" والحرب الكلامية التي أنعشها ترامب بانتقاد وزير خارجيته علناً لأنه "يضيع وقته بمعالجة ديبلوماسية للأزمة مع كوريا الشمالية؛" فضلاً عن التباين الصارخ بينهما حول صلاحية الإتفاق النووي مع إيران.

        اللافت أيضاً انكباب الوزير تيلرسون في الآونة الأخيرة على تصدر الجهود الأميركية لترويض مواقف الدول الأوروبية، الأطراف الموقعة على الإتفاق، بقبول مبدأ إعادة التفاوض مع طهران مما يسمح بإضافة عناصر خلافية أخرى على رأسها البرنامج الصاروخي لإيران، إتساقاً مع "مطالب" المتشددين والمتضررين من الإتفاق النووي في واشنطن وتل أبيب. في المحصلة، باءت جهوده لإعادة التفاوض بالفشل.

        في سياق تنافس أقطاب وتوازنات السلطة السياسية ومراكز القرار، واجه وزير الخارجية تيلرسون سلسلة انتقادات شديدة من "النخب السياسية التقليدية،" وبعض الديبلوماسيين السابقين والمؤيدين للرئيس ترامب، وكيلت شتى الإتهامات له. واظب تيلرسون على "التخفيف من وطأة الاسلوب الفج" للرئيس ترامب، لاسيما في تفضيله اصدار الأحكام والمواقف سريعاً عبر الشبكة الإلكترونية – تغريداته – والتي اشعلت توترات واضطرابات على الصعيد العالمي، مهددة بنشوب حرب نووية لا تبقي ولا تذر.

وصفة كيسنجر

        لا يغيب طيف وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر عن مفاصل صنع القرار السياسي في أميركا حتى يظهر مجسداً ومرغوباً للقاء به من أكبر السياسيين الأميركيين ليبرهن على صحة نظرياته وقد استفاد من أخطاء الماضي، كما يصفها أحياناً، لإعطاء الأولوية للجهود الديبلوماسية، ويبلور رؤية استراتيجية ومعالم سياسات تخدم الاستراتيجية العليا في المقام الأول، وإعادة التوازن لمكانة ونفوذ الولايات المتحدة على المسرح العالمي وإرساء قواعد أنجع "لإدارة الأزمات" العالمية أمام تحذير عدد من الإستراتيجيين الأميركيين من "زوال الديبلوماسية .. (الناجم عن) تسلم المؤسسة العسكرية وأجهزة الإستخبارات" قيادة دفة السياسة الأميركية.

        من المفارقات التاريخية في هذا الصدد ما توصل إليه أبرز منظري المحافظين الجدد، فرانسيس فوكوياما، الذي بشر مطلع الألفية بصراع الحضارات و"نهاية التاريخ" لصالح سيادة الصيغة الأميركية؛ وما لبث أن تراجع عن معتقداته مطلع تشرين الأول/اكتوبر 2008 بمقال ذيله في أسبوعية نيوزويك مبشراً هذه المرة بـ "إنهيار أميركا كمؤسسة .."

        الرابط المشترك ليس بين كيسنجر والرئيس ترامب بالدرجة الأولى، بل بين الأول ووزير الخارجية (السابق) ريكس تيلرسون عند الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية والخلفية المشتركة بينهما: قطاع النفط. تيلرسون الرئيس السابق لأخطبوط النفط العالمي إكسون-موبيل، وجذورها عند آل روكفلر؛ وكيسنجر الذي رشحه نيلسون روكفلر لمنصب مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأسبق نيكسون.

        لإلقاء مزيد من الضوء على تلك العلاقة "الملتبسة،" يخبرنا المؤرخ الأميركي ويليام إنغدال، شباط/فبراير 2017، أن اختيار تيلرسون لمنصب وزير الخارجية جاء بتوصية من الأقطاب البارزة وراء مجيء ترامب "وارين بفيت؛ ديفيد روكفلر (توفي 20 آذار 2017)؛ وهنري كيسنجر" لرغبتهم إدارة دفة السياسة الخارجية للعهد الجديد عبر شخصية آتية من الصناعات النفطية الضخمة. ويمضي إنغدال موضحاً أن "المخطط" كان يرمي القيام "بإعادة تنظيم / هيكلة عالمية كبرى في مجال السيطرة على النفط، عبر العودة لمقولة كيسنجر الشهيرة: إذا سيطرت على النفط فإنك تسيطر على أمم بأكملها أو على مجموعة من الأمم."

        ظهر هنري كيسنجر إلى جانب الرئيس دونالد ترامب في المكتب الرئاسي (البيضاوي) أكثر من مرة، أبرزها لقاء ترامب مع وزير الخارجية الروسي "غير المسبوق في المكتب الرئاسي،" أيار ،2017، وفق أحكام البروتوكول الأميركي؛ مما أثار فضولاً وجملة تساؤلات حول دوره وتأثيره على مسار السياسة الأميركية في عهد ترامب.

        تصريح ترامب بحضور كيسنجر في تلك الأثناء كان لافتاً بالقول ".. أجرينا لقاءا جيداً مع لافروف،" قيل لاحقاً أن الأمر اقتصر على سوريا والعلاقة الثنائية بين واشنطن وموسكو.

        في "غياب" كيسنجر عن البيت الأبيض تتولى مساعدته السابقة في مجلس الأمن القومي، كاثلين ماكفارلاند، إدارة الملفات الحساسة في منصبها كنائبة لمستشار الأمن القومي لدى ترامب؛ وتجسيدها الوفي لمبدأ كيسنجر المتمثل بـ "اللعب بالنار" للحصول على ما تريد وإرساء الفوضى ما أمكن.

        "إرث" كيسنجر في السياسة لا يزال يُستحضر لفرادته وتفرده في اتخاذ القرارات: تجاهله المتعمد لدور وزارة الخارجية حينما كان مستشاراً للرئيس لشؤون الأمن القومي؛ وتجاهل دور مؤسسة الأمن القومي عند تسلمه منصب وزير الخارجية. الأمر الذي أسفر عن تقديم وزير الخارجية الأسبق ويليام روجرز استقالته لاستثنائه من ترتيبات الإعداد لزيارة الرئيس نيكسون للصين.

        من نافل القول أن كيسنجر كان من "القلائل" بين السياسيين الأميركيين ممن أيدوا انتخاب دونالد ترامب، معللاً قراره لشبكة (سي إن إن)، 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، بالقول "..الرئيس المنتخب هو الأكثر إنفراداً من بين الذين شهدتهم .. ليس لديه أفكاراً (مسبقة)، وأصبح رئيساً استناداً على استراتيجيته الخاصة."

        في أحدث لقاء بين ترامب وكيسنجر، 8 شباط/فبراير 2018، غرّد الأول مزهواً "سألتقي بهنري كيسنجر في الساعة 1:45 بعد الظهر (بتوقيت واشنطن). سنبحث مسائل كوريا الشمالية والصين والشرق الأوسط." ربما تم تذكير ترامب بأسس عقيدة كيسنجر المستندة إلى ".. تحقيق الأمن بالمطلق – (عبر) تحييد الخصم – يعتبر ضماناً كافياً" للإستراتيجية الأميركية.

بومبيو عنوان حروب مقبلة

        من بين الأمور اللافتة مواظبة مدير وكالة الإستخبارات المركزية، مايك بومبيو، الإختلاء اليومي بالرئيس ترامب لما لا يقل عن 30 دقيقة مستعرضاً أمامه تقرير الملخص الإستخباراتي، بحدود الساعة الحادية عشرة صباح كل يوم؛ استطاع عبر ذلك نسج علاقة وطيدة مع الرئيس "يتبادلان" فيها وجهات النظر في مسائل الأمن القومي الحساسة بحرية. ونقل بعض أعوان الرئيس عن اللقاء اليومي بالقول أن بومبيو يوظف تقنية الرسومات الدقيقة لإبهار مستمعه ولضمان عدم تشتت ذهنه، متحكماً بالمضمون وحمل الرئيس على تبني وجهة نظره بمهارة المؤسسة الاستخباراتية.

        في المحصلة، توطدت علاقة الرجلين وأضحى بومبيو لا يفارق الرئيس ترامب في اتخاذ المواقف المتعددة، مما ولد شعوراً بالقلق من الطواقم المختصة لا سيما في وزارة الخارجية الأميركية؛ أدت لتباعد علاقة الرئيس بوزير خارجيته والتحايل عليه بتفضيل صهره، جاريد كوشنر، في تسلم وإدارة عدد من الملفات الحساسة: الشرق الأوسط، الصين، المكسيك.

        خلفية مايك بومبيو، باختصار شديد، لا تدعو على الإرتياح. هو الآتي من تيار "حزب الشاي،" المتطرف في الحزب الجمهوري، عمل نائباً في مجلس النواب الأميركي عن ولايته كانساس، وله سجل عسكري معتبر وخدماته في الحرب على العراق. وابرز ما يظهره سجله خلال عمله في الكونغرس معارضته الشديدة للإتفاق النووي وتفضيله التدخل العسكري الأميركي على نهج الديبلوماسية معتبراً أن "الغارات الجوية لها مفعول أفضل من الديبلوماسية."

        ما يجهله الكثيرون هو علاقته الحميمية مع "الاخوين كوك،" وأخطبوط نفوذهما في احتضان وترشيح السياسيين المنسجمين مع أطروحاتهما فائقة العنصرية والتشدد، عبر امبراطورية تمويل متشعبة لا تكل. يشار إلى أن امبراطورية الأخوين كوك دعمت مبكراً حملة الرئيس ترامب الانتخابية وضخت مبالغ عالية في حملات مرشحين متشددين على طول الولايات المتحدة.

        تقودنا هذه السردية السريعة إلى القول أن ما ينتظر وزارة الخارجية الأميركية برئاسة مايك بومبيو ليس عسيراً على الفهم أو التنبؤ، أبرزها تصعيد في حدة التوترات في "الشرق الأوسط" دون استبعاد نشوب حرب مع إيران، حسبما يرجح كبار الاستراتيجيين الأميركيين؛ يساندهم في ذلك تصريحات الرئيس ترامب المتكررة بأنه لا ينوي تجديد التزام بلاده بالاتفاق النووي حين حلول موعده في شهر ايار/مايو المقبل، وما ينطوي عليها من مطالبة الدول الأوروبية الإصطفاف التام خلفه بغية "انتهاك نصوص الإتفاق لإنقاذه."

        حضور بومبيو الطاغي في مفصل هام من مفاصل السياسة الأميركية يجسد "تحذير" هنري كيسنجر فيما يتعلق بإيران قائلاً "من الخطأ الافتراض بأن الديبلوماسية تستطيع تسوية النزاعات الدولية دائما حين تتوفر النوايا الحسنة وإرادة التوصل لإتفاق  .. ففي نظام عالمي ثوري (المقصود دائم التطور)، ستظهر كل قوة/دولة لخصمها بأنها تفتقد لتلك الخصائص تحديداً."

        في هذا السياق، وعند النظر إلى نفوذ كيسنجر الطاغي على مفاصل صناع القرار، يرجح الخبراء إقدام واشنطن على إلغاء الإتفاق النووي، من جانب واحد أن لم تصطف الدول الأوروبية خلفها. وما يثير الحيرة في نفوس اولئك استعداد الرئيس ترامب للتفاوض المباشر مع جمهورية كوريا الديموقراطية، لكنه يحجم عن فعل مثيل ذلك مع إيران؛ ربما، كما يقول كيسنجر وترامب، لأن كوريا الشمالية لا تمتلك مؤهلات الدولة "الثورية،" وانتفاء رغبتها بنشر نفوذها في الدول المجاورة، بعكس ما تعتقده واشنطن من دور لإيران. بل تضع بيونغ يانغ نصب أعينها الفوز بانتزاع الشرعية والقبول من "النظام العالمي."

        بالعودة إلى أطروحات كيسنجر السابقة، فإن السعي "لتحقيق الإستقرار هو نتيجة مباشرة ليس لإرادة بلوغ السلام بحد ذاتها، بل لكسب الشرعية" للنظام السياسي.

        لهجة التبجح الصادرة باستمرار من الرئيس ترامب، في القضايا العالمية المتعددة، لا سيما في ملف كوريا الشمالية، ينبغي إدراجها ورؤيتها في سياق مبدأ كيسنجر – السياسة الواقعية والمستندة إلى السعي لتفتيت جبهة الخصوم والمنافسين على المسرح الدولي (الصين وروسيا)؛ ورديفة للتوجهات المناوئة لأولوية المسار الديبلوماسي الذي أثمر التوصل لإبرام الإتفاق النووي.

        المراجعة أعلاه كانت ضرورية لوضع استقالة/إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون في سياقها الموضوعي.

Mounzer A. Sleiman Ph.D.

Almayadeen Washington Bureau Chief

Director/Editor Center for American and Arab Studies

Email: [email protected]