نحو قومية لبنانية جديدة... بقلم الدكتور فيليب سالم





نحو قومية لبنانية جديدة... بقلم الدكتور فيليب سالم

أمتي، كم صنم مجدته،

لم يكن يحمل طهر الصنم.

عمر أبو ريشة

في قضايا الهدر والفساد والموازنة، اين الضجيج الذي ملأ ساحات المدينة، وماذا تبقى من الكلام؟ لو كانت الأرض تعرف الكلام لتكلمت. لقد اغتصبوا الأرض واغتصبوا العقل. نصف قرن من الحروب والفشل ولا نزال نصر على الفشل. نصف قرن و"الصنم" يمعن ضربا بالضحية، والضحية تخرّ إجلالا "للصنم". لقد اخذوه الى حافة الانهيار، الى قعر الذل، بسبب فشلهم وفسادهم. فبدل ان يحاسبهم لبنان على الفشل والفساد جاؤوا وبدون حياء، يطلبون من أبنائه ان يغفروا لهم وان يدفعوا عنهم سعر هذا الفشل. وأسوأ ما قد يحدث هو ان يرضى أبناؤه بالغفران لهم وبأن يسددوا لهم فاتورة الفشل. في يوم من الأيام امتلأت الشوارع بالناس تطالب بحقوقها. واحد يطالب بحقه في العمل؛ وواحد يطالب بحقوق طائفته؛ لكن من يا ترى يطالب بحقوق لبنان؟ وفي اليوم التالي وبعد ان اطمأن الناس الى الوعود التي أعطيت، تبخرت الناس من الشوارع وتبخرت الحقوق ووقف لبنان وحيدا؛ ما من أحد في الشارع يدافع عنه. ومن المضحك المبكي انه عندما تتكلم الدولة عن الإصلاحات التي تود ان تقوم بها وكأني بها تعتذر من المواطنين لأنها بالحقيقة، لا تريد هذه الإصلاحات. ولا تريد تغيير الوضع القائم، ولكن "لا قوة الا بالله العظيم". لقد فرضت عليها هذه الإصلاحات من قبل الدول المانحة في مؤتمر "سيدر". لقد فرضت الدول المانحة هذه الإصلاحات كشرط أساسي لدفع الأموال لنا، لأن هذه الدول لا تثق بالدولة اللبنانية وتعرف الكثير عن الفساد عندنا. وان لم نتمكن من الوصول إلا الى إصلاحات فولكلورية لنرضي الدول المانحة، فكيف الوصول الى اصلاح حقيقي يرضي لبنان؟

يقول آرثر كيستلر في كتابه " ظلام عند الظهيرة"، ان موسى لم يسمح له ان يدس أرض الميعاد. الا انه سمح له ان يصعد الى قمة الجبل ويراها من هناك. وعندما نظر رغرغت عيناه بالدموع إذ رآها تمتد تحت قدميه. من اجل ذلك لم يكن من الصعب عليه ان يذهب الى موته. إذ يهون على المرء الموت بعد ان يرى أحلامه تصبح حقيقة. وباعتقادي ان البطريرك صفير مات وهو في ألم عميق. لقد رأى بالفعل فلول الجيش السوري تغادر ارض لبنان، ولكنه لم يرى زوالا كاملا للوصاية السورية على لبنان. وأكبر ألمه انه مات قبل ان يرى قيامة لبنان. منذ الاستقلال الى يومنا هذا ولبنان يتنقل من وصاية الى وصاية. الوصاية الفرنسية ثم الوصاية المصرية فالوصاية الفلسطينية والوصاية السورية ثم الوصاية الإيرانية. منذ الاستقلال الى اليوم لم نعرف الاستقلال، لأننا لم نعرف العدو الأكبر والأشرس للبنان. انه ليس العدو الرابض خارج الحدود، بل العدو الذي يعيش بيننا ويحمل هوية لبنانية ويتكلم بالوطنية. انه "الصنم" الذي لا يتردد بالمتاجرة بالوطن والذي يعمل ليل نهار لتقويض سلطة الدولة واعلاء سلطة شخصه. هذا "الصنم" الذي يؤمن بالولاء فقط لنفسه. ان تحرير الأرض هو عمل كبير ولكن تحرير الانسان هو عمل أكبر. وأكثر ما يحتاج إليه لبنان هو تحريره من الذين يتاجرون به.

كل ذلك يقودنا الى الحاجة الى إرساء عقد اجتماعي جديد والى إرساء قومية لبنانية جديدة. في العقد الاجتماعي الجديد نحدد علاقة المواطن بالدولة. فالدولة تصبح سلطة في خدمة الناس بدل ان تكون سلطة تحكم الناس. والمواطن يصبح سيدا بدل ان يكون ضحية. في هذا العقد الاجتماعي الجديد يمارس المواطن أهم حقوقه وهو الحق في صنع مستقبل الوطن. ويمارس أيضا أهم واجباته وهو مراقبة الحاكم ومحاسبته. فالمواطن الذي لا يحاسب الحاكم لا يحق له التذمر منه. والمواطن الذي يشكو من الحاكم ويبقى صامتا فهو شريك له.

وفي القومية اللبنانية، يجب الاعتراف بان الأحزاب اللبنانية منذ الاستقلال الى يومنا هذا قد فشلت في بلورة فلسفة جديدة لمعنى لبنان. لقد فشلت هذه الأحزاب والتيارات السياسية لأنها تمحورت حول الدين او الطائفة أو الشخص. نحن بحاجة الى قومية تتمحور حول لبنان وتتخطى الطوائف والأديان وتعلو فوقها. نحن بحاجة الى قومية تصهر جميع اللبنانيين لا ان تفرقهم وتجعلهم مواطنين في دويلات طائفية.

جاء في الطائف "ان لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه". والكلمة الأساسية هنا هي كلمة "نهائي".

أي ان لبنان ليس وطنا مرحليا، وليس وطنا قابلا للذوبان في كيان سياسي آخر. وبالرغم من اصرارنا على انه عربي الهوية لكننا نرفض ان يذوب في العالم العربي. كما اننا نرفض ان يصبح وطنا بديلا لجميع اللاجئين القادمين اليه من جميع أبواب الجحيم في الشرق. وفي القومية اللبنانية الجديدة يجب فصل الدين عن الدولة لقيام الدولة وللوصول الى الدولة المدنية. وعندما نطرح فصل الدين عن الدولة لا نقوم بذلك من منطلق الالحاد او عدم احترام الدين. بل على العكس نحن نؤمن بان الدين ضرورة عظمى لإغناء الروح وجعل الانسان أكثر إنسانية. الا اننا نؤمن بنفس الوقت بان هذا الفصل هو ضرورة لقيام الدولة. ألم نرى ماذا حلّ في لبنان؟ ماذا حلّ في الشرق؟ قتل ودمار وحروب. مسلمون ومسيحيون ويهود يتقاتلون في هذا الشرق. ألم يحن الوقت بأن نرتفع من الدين الى الانسان؟ ان نرتفع من مبدأ يقول بان الآخر هو عدوي الى مبدأ يقول ان الآخر هو أخي. كل الأيديولوجيات التي تمزج الدين مع الدولة لا تحترم الانسان. كما انها لا تعترف بأن الانسان، وليس الدين، هو محور الوجود.

ونحن نؤمن بقومية لبنانية حضارية اذ ان لبنان هو كيان حضاري قبل ان يكون كيانا سياسيا. انه حضارة تختلف عن جميع الحضارات في الشرق لأنه هو وحده نموذج التعددية الدينية والتعددية الحضارية في هذا الشرق. وحده نموذج لمعانقة الآخر. ولكننا نخاف على هذه الحضارة لان الحضارة تحتاج الى بيئة سياسية معينه لكي تنمو فيها وتحتاج الى دولة قوية لتحميها. إذا زالت الدولة تزول الحضارة. وكم حضارة زالت من الوجود عند زوال الدولة. لذلك جئنا نبني الدولة على أساس القومية اللبنانية.

وفي هذه القومية لا يكون لبنان منغلقا على نفسه. فالانغلاق هو ضد مفهوم لبنان. ان لبنان وجد ليكون فاعلا في بيئته السياسية، العالم العربي؛ وفاعلا في بيئته الحضارية، العالم كله. واهم ما في هذه القومية هو الولاء المطلق للبنان. الولاء له وحده. وإذا اردت ان تلتزم بالقومية اللبنانية يجب ان تعلن التوبة عن خطاياك بحق لبنان وان تردد في أعماق اعماقك هذه الصلاة. " أنا قومي لبناني حضاري. أبي هو هذا اللبنان. امي هي هذه الأرض. أهلي هم كل اللبنانيين. ديني، "أعبد لبنان بعد الله". منطقتي، كل حبة تراب من ارضي. أحب اخوتي الا انني لا أحب أخي الذي لا يلتزم بالولاء لأبي وأمي. أعاهد الله ان أكون انسانا حضاريا. واعاهد لبنان ان أكون مواطنا أقوم بواجباتي قبل ان أطالب بحقوقي. انا قومي لبناني الا انني اعتبر البشرية جمعاء عائلتي".

وعندما تنتصر القومية اللبنانية على جميع القوميات التي تعيش فيه، يقوم لبنان.