نظام ضبط الجودة اساس عصرنة دول العالم الثالث الشيخ فهد داود الصباح لا شك ان الازمة المالية العاليمة عام 2008 وجائحة "كورونا" والحرب الروسية – الاوكرانيةوغيرها من الاحداثة التي شهدها العالم تركت تبعات كانت صعبة على الجميع، ولا تزال تجر ذيول البؤس على نسبة كبيرة من سكانه، بل انها ستورث لاجيال الكثير من الويلات والخيبات، والالم، الا ان ثمة امل لدى الجميع بالتعلم من دروس هذه الاحداث الكارثية، وان تتغير الاهتمامات الرسمية لدى المسؤولين في الدول كافة، ويكون الموضوع العلمي والتنموي، ودعم الاقتصادات بما تناسب مع تنمية حقيقية هو الاساس وليس الصراعات والحروب. في الكويت مثل بقية الدول، هناك ضرورة كي يتغير النهج في التعاطي مع القضايا كافة، فلقد سمئنا من المماحكات النيابية- الوزارية، والتراشق الاعلامي بين الطرفين، والازمات المفتعلة التي تطل بين حين واخر جراء صراعات معظمها شخصية. فيما هناك جدول طويل من القضايا الواجب العمل على حلها، وهذا الامر بيد السلطتين، فالحاجة، مثلا، الى بنية تحتية متطورة لم تعد ترفا، والعمل على تطوير الاقتصاد والوصول الى قاعدة انتاج صناعي، حتى لو كانت في البسيطة منها، باتت امرا ملحا، وكذلك وضع مشروع المنطقة الاقتصادية الشمالية، وتحقيق رؤية الكويت 2035 موضع التنفيذ بات اكثر من ضروري، وهذا كله بيد التشريعيين والمسؤولين التنفيذيين. اذا كانت رحلة الالف ميل تبدأ بخطوة، فان الخطوة الاولى في هذا السياق هي تطبيق نظام الجودة على الجميع، وكل الدوائر والمؤسسات، اضافة الى الاخذ بالتطورات العلمية بشأن الادارة والتحديثات التي تجريها الدول المتقدمة والتعلم من تجارب الاخرين، وهذا ليس صعبا اذا وجدت الارادة للتنفيذ. علينا ان نستفيد من الازمات الحالية، فعالم قبل جائحة "كورونا" كان يتجه الى ازمة مالية واقتصادية خانقة، ومع الجائحة ارتفعت المديونية العالمية من 260 تريليون دولار الى 310 تريليونات، فيما كان الناتج الاجمالي العالمي يصل الى 85 تريليون دولار، ومع الازمة انخفض الى 65 تريليون دولار، وبالتالي فان العجز سيزيد في الدول كافة، بل ان هناك دولا افلست واخرى دخلت نادي الدول الفاشلة، وهذا يزيد من الازمات السياسية والاجتماعية، ومن التطرف، العنصري والديني والقومي، ويلقي بظلال قاتمة على المستقبل اذا لم تتحرك الدول، على المستوى الداخلي لوضع خطط وبرامج عمل فورية لتحصين نفسها من الازمات المقبلة، وذلك يبدأ بالاقتصاد الجيد المبني على اسس علمية واضحة، وهذا لا يمكن ان ينجح من دون تطبيق نظام الجودة. نعم، ثمة الكثير من الكلام في العالم اجمع عن التعلم من درس الجائحة، لكن لنتوقف قليلا عند هذا الامر، فالجوائح كثيرة في التاريخ، اذ قبل هذه كانت جائحة الانفلونزا الاسبانية التي اودت بحياة مئة مليون انسان قبل ما يزيد عن مئة عام، ويومها قيل الكثير عن ضرورة تلافي مسببات الجوائح، لكن ماذا حصل؟ لا شيء، عاد العالم الى صراعاته، وكانت هناك الحرب العالمية الاولى التي اودت بحياة 50 مليون انسان، ودمرت دولا كثيرة، وتبعتها الحرب العالمية الثانية اودت ايضا بحياة 70 مليون انسان. التعلم يكون بالفعل وليس قولا، فمنظمة الصحة العالمية اعلنت قبل سنوات ان"الاسوأ لم يأت بعد"، فيما هناك دراسات تؤكد ان "كورونا" ليس اخر الامراض الفيروسية التي ستجتاح العالم، ولهذا اذا كانت هناك نية فعلية للمحافظة على هذا الانسان، فهذا يبدأ من الحكومات وكذلك الاشخاص، ولا ينتظر قرارات اممية، يبدأ بالاخلاص بالعمل، وتغليب الجانب الانساني على بقية الجوانب، وان يكون الضمير هو الحكم، كي يخرج الانسان من شرنقة الانهيار الاخلاقي التي يعيش فيها. ومما لا شك فيه ان الازمات الكويتية الداخلية ارخت بظلالها على كل مناحي الحياة في البلاد، فيما كشفت الاخفاقات خلال السنوات الماضية عن ازمة ادارية كبيرة، لا يمكن في ظل استمرارها اصلاح الادارة، والخروج من نفق التخبط على المستويات التنفيذية كلها، الا اذا كانت هناك ارادة قوية للاصلاح بعيدا عن اي حسابات التي كانت كلها، وفقا لنتائج التجربة الماضية، خاسرة ومكلفة كثيرا للكويت. من الثابت قانونا، وعرفا، ان المهمة الاولى لاي موظف، مهما كان مستوى منصبه، هو الخدمة الوطنية، وهذا للاسف لم يتم ترسيخه في الادارة طوال العقود الماضية، بسبب التهاون في تطبيق اسس العمل الحكومي، فالموظف الذي يرى انه قادر على عدم تأدية واجبه عل اكمل وجه، ورغم ذلك يحصل على الامتيازات كلها، بل انه يستطيع التدرج في الترقيات، بقوة الواسطة، لن يؤدي دوره المطلوب، وهو سيتحول الى مشجع على التقاعس والتهاون في العمل. اضف الى ذلك ان غياب الجدية في المحاسبة ادت الى هذا النزوع للفساد والافساد، ولذلك رأينا كيف تتحول المؤسسات الى مرتع للبطالة المقنعة، لان المواطن رأى في الوظيفة الملاذ له للكسل، وعدم بذل الجهد في الخدمة الوطنية. كل هذا كان، ولا يزال، هو السبب الاول لتراكم تركة الفساد، وفي الوقت نفسه لهدر المال والوقت، واي معالجات خارج البحث في تلك الاسباب ومكافحتها لن تؤدي الى اصلاح الادارة، وتاليا اصلاح الممارسة البرلمانية، لان النائب الذي يرى ان الخدمات البسيطة، والخروج على القانون جواز سفره الى النجاح في الانتخابات لن يعمل على رقابة صارمة للسلطة التنفيذية، بل سيعمل على عقد الصفقات مع الوزراء، وهو ما يضعف دوره الحقيقي، حتى في التشريع سينطلق من فكرة محددة، وهي تطويع القانون لمصلحته، رغم معرفته ان هذا القانون سيتحول ضده في مرحلة من المراحل، لكنه يعتمد على علاقاته وعزوته، القبلية والطائفية، وارثه الخدماتي في التملص من المسؤولية. نتيجة لذلك ثمة فرصة كبيرة متاحة، وهي خطوة صغيرة في شكلها كبيرة في مضمونها، بل انها ستؤدي الى تغيير شامل في الذهن الاداري والممارسة على المستويات التنفيذية كلها، وهي البدء فورا في تطبيق نظام الجودة الشاملة، وتفعيل المحاسبة، والرفع من كفاءة الموظفين، مع الترشيد الممنهج في الادارات، بمعنى توزيع الفائض من الموظفين في ادارة معينة على ادارات ووزارات اخرى، ولاحقا العمل على توزيع الفائض المتبقي على القطاع الخاص، عملا بمبدأ الحاجة ام الاختراع، ووقف دعم العمالة الذي ثبت بعد التجربة انه يشجع على الفساد، والتقاعس عن العمل. ربما هناك من يسأل: كيف يمكن ان ينسجم هذا مع المبادىء الدستورية التي تنص على رعاية الدولة للمواطن، وتأمين فرصة العمل له؟ والجواب هو: ان رعاية الدولة للمواطن لن تتعارض مع مبدأ المبادرة الفردية الذي هو ايضا نص دستوري، فالدولة لم تعلن انها سترعى المواطنين من خلال توظيفهم في القطاع العام، بل اتاحت لهم الفرصة لتأدية دورهم في المجالات كافة، وليس عليها حرج في هذا الشأن، لكن التركيز على التوظيف في القطاع العام، والتخضم الوظيفي تسبب في رفع الباب الاول من الميزانية الى مستويات غير موجودة في اي دولة، وتسبب هو والدعم بانهاك الميزانية التي وفقا لكل التقديرات ستبلغ 35 مليار دينار في السنوات القليلة المقبلة، ما سيرفع العجز الى نحو 60 في المئة، وهذا يعني الحاجة الى الاستدانة اكثر، وهي معضلة وقعت فيها الكثير من الدول التي لم تعمل وفقا لقواعد الاصلاح الاداري الحقيقي، واكتفت بالاصلاح الشكلي. في السنوات الاخيرة اتخذت قرارات تشكل نقطة تحول بشأن الخروج من الازمة التي استمرت سنوات، وادت الى تراجع كبير في الاداء الحكومي، غير ان ذلك يحتاج الى خطوات عملية وواقعية كي تتحول الاجراءات من النظري الى العلمي، وهذا لا يمكن ان يتم الا من خلال آلية واضحة لتنظيم العمل في المؤسسات الرسمية كافة، وهو ما افتقدته في السنوات الماضية، او بالاحرى منذ اعلان هيكيلة الدولة رسميا قبل ستة عقود. ولهذا كي تثمر الجهود وكي يكون لدى الحكومة بصمة نهضوية لا بد من ايجاد آلية لنظام ضبط الجودة، بمعنى ان تعمل الوزارات والمؤسسات وفقا لما هو سائد في مختلف المؤسسات العالمية، لان الاستمرار بالنظام الاداري الموجود حاليا يعني الاستمرار في التراجع، وعدم القدرة على تخطي العقبات التي تحولت تقليدا لدى معظم الموظفين في وزارات الدولة، وبالتالي ضياع الجهود في دهاليز التفاصيل والدورة المستندية البالية. من المعروف ان نظام ضبط الجودة يعزز الاداء الاداري، كما انه يشكل مصدرا لتطوير الموظفين، اضافة الى انه يرفع من درجة الانتاجية المفتقدة حاليا في غالبية مؤسسات الدولة. في هذا الشأن نستميح العذر من الجميع ان تفسح لنا مجال مناقشة هذه المسألة استنادا الى ما بات سائدا في العالم، خصوصا في الدول الديمقراطية التي تقدم الادوات الضرورية للموظف كي يبدع في عمله، ولا يتحول عالة على الدولة والمال العام. من هذا المنطلق لا يمكن العمل في نظام ضبط الجودة اذا كانت الذهنية قائمة على المحاباة، لان ذلك يكون علة من الصعب جدا علاجها، الا من خلال تغيير طبيعة العلاقة بين مصدر العلة (الواسطة) وبين المؤسسة، وهذا ما ينادي به الخبراء الذين يطمحون الى كويت جديدة وعصرية، خصوصا اذا كان الهدف هو ترجمة مشاريع كبرى الى واقع، والبلاد بحاجة ماسة اليها في هذه المرحلة المفصلية، لا سيما مع المتغيرات الكبيرة المقبلة عليها المنطقة، ما يستدعي العمل بجدية وذهنية متطورة من اجل وضع الحواجز الكبيرة امام الساعين الى تكريس المحاباة والمصلحة الذاتية على مصلحة الدولة. من هنا يكون نظام ضبط الجودة، الواجب ان يعمل به في كل مؤسسات الدولة ضرورة ملحة جدا، ولنا في القطاع النفطي، مثالا، يمكن البناء عليه، فمن خبرتنا الطويلة فيه حيث استطعنا انجاز الكثير في مجال ضبط الجودة يجعلنا نقول: ان القطاع العام في الكويت يحتاج الى اعادة هيكلة ادارية، ربما تصل الى حد اعادة تأهيل نسبة كبيرة من الموظفين، وذلك لن يكون عبر قرارات ارتجالية، بل بعمل دؤوب ومستمر، وليس عيبا في هذا الشأن العمل وفق ما هو قائم في نظام الـ"ايزو"، كمثال، فيما لدى الكويت الكثير من التجارب التي يمكن البناء عليها. هنا يمكن القول ان الدور الكبير في هذا الشأن يكون على المجلس الاعلى للتخطيط، او اعادة احياء وزارة التخطيط التي تشكل عقل الدولة ومفكرها في وضع الدراسات والافكار والعمل على تنفيذها، وتنبه الى الاخطاء، اضافة الى ذلك الاستعانة بأهل الاختصاص من ذوي الخبرة في هذا الشأن، حتى لو كان ذلك تطوعا، بمعنى افساح المجال لتقديم الرؤى والافكار من اجل النهوض بالعمل الاداري. ثمة ايمان عميق لدينا ان تطوير المؤسسات يقع على عاتق مجلس الوزراء ومجلس الامة، فالاول لا بد ان يكون منفذا امينا لهذه التوجهات، غير ان هذا لا يمكن ان يتم الا عبر نظام ضبط الجودة الذي يمكن شرحه وتبسيطه في محطات مقبلة، وهذه مهمة مجلس الامة في التشريع الحازم لاعتماد هذا النظام عبر جملة قوانين، فهذا النظام ، اي ضبط الجودة بات ضرورة لعصرنة الدولة استنادا الى هذه الحقيقة باتت لدى الحكومة امكانية كبيرة لتطوير العمل في نظام الجودة الشاملة على المستويات كافة في مؤسسات الدولة، بل اصبح من الضروري الاخذ بالاسباب التي تكشف عن ابداع الفرد في العمل، والالتزام بالقوانين، وتطويرها بما يتناسب مع الواقع المستجد الذي اصبح عليه العالم كله، وليس الكويت فقط. من هنا لا بد من ان تعمل السلطة التنفيذية على تطوير نظام الضبط والربط في العمل، فلقد تغيرت الحاجة الى الدورة المستندية القديمة، وبات نظام الموظف الشامل، الذي كان معمولا به في بعض المؤسسات الرسمية، ضرورة ملحة في كل المؤسسات، كما ان لدى الحكومة امتيازا كبيرا في هذا الشأن وهو اعادة توزيع الموظفين بالطريقة التي تخدم الاسلوب الجديد في العمل، اذ بدلا من ان تحتاج الدورة المستندية الى ثلاثة او اربعة تواقيع لكل معاملة، بات بالامكان حاليا الاعتماد على خدمات الـ"اون لاين" في انجازها، مع تخفيف الازدحام البشري في المؤسسات، وتطوير مناحي كثيرة في هذا المجال. حين تبدأ الحكومة بالاعتماد الكلي على المعاملات الالكترونية فهي لا شك ستجد نسبة انتاج اعلى بكثير من السابق، فالموظف الذي كان يهدر 60 في المئة من الوقت خلال الدوام بالاحاديث الجانبية وتناول الافطار وغيرها من الاعمال الخارجة عن وظيفته، اصبح بمقدوره، مع نظام العمل الالكتروني ان ينجز اكثر، وان يوظف وقته كله في الانتاج، وبالتالي التغلب على العقبة الكبيرة التي كانت موجودة في السابق، وهي وفقا للدراسات والاحصاءات، ان الموظف الكويتي كان يعمل جديا نحو 23 دقيقة في اليوم، اما حاليا ورغم الاجراءات الاحترازية لمواجهة تفشي "كورونا" فقد تضاعف الانتاج اكثر بكثير من السابق بفضل الاعتماد على العمل الالكتروني. ايضا اليوم باتت المحاسبة ومراقبة انتاج الموظف افضل بكثير من السابق، وبالتالي ستكون تقارير الانتاجية مختلفة، ولا توجد فيها اي محاباة، هذا اذا سارت الحكومة في نظام ضبط الجودة وفقا للمعطيات الجديدة، وهو ايضا خفض في هدر المال العام، وتصويب وجهة التكريم بالاعمال الممتازة بالشكل الصحيح. ان اي تطور في اداء مؤسسات الدولة يعتمد على امرين مهمين، الاول الضبط والربط وحسن تنفيذ القانون، والثاني دافعية الموظف الشخصية وحماسته للعمل،وحين يشعر انه متروك لضميره، وان العمل عن بعد من دون مزاحمة الواسطة له، لا شك سيؤدي عمله على اكمل وجه. ان هذه الحلقة المتطورة من مسيرة عصرنة الدولة، مع التوجه الى اعتماد نهج الثورة الصناعية الرابعة، سيؤديان الى تغيير جذري في رؤية الكويت ووظيفة الدولة الاقتصادية، وبالتالي سيشكلان انطلاقة قوية للتغلب على الازمة الاقتصادية والمالية، بل التحول الى دولة انتاجية متطورة. |