الرياض - الحريري: علاقة عضويّة تتجاوز العِقَدَ والتباينات





الرياض - الحريري: علاقة عضويّة تتجاوز العِقَدَ والتباينات

21 حزيران 2018

جوزف القصيفي

كَثُرَت في الآونة الأخيرة التحليلات والمراهنات حول عمق العلاقة بين المملكة العربية السعودية ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري ومداها، وذلك في الوقت الذي تتعثّر فيه عمليّة تأليف الحكومة الجديدة وتصطدم بعراقيل قد تجعل ولادتها قيصريّة. ومن الطبيعي بمكان ألا تكون الأمور سهلة في ظل الشهيّة المفتوحة لكل الأطراف من أيّ جانب، والمطالب التي يصعب تلبيتها، خصوصا بعد النتائج التي أفرزتها نتائج الانتخابات النيابيّة الأخيرة.

وتجزم مصادر مطلعة أنّ الرياض التي تدعم أصدقاءها في لبنان، وفي مقدّمهم حزب "القوّات اللبنانية"، لا تُكلّف الحريري فوق طاقته، وأنّ الحديث عن إملاءات عليه ليس دقيقاً، وهو مجرّد استنتاج يحتاج إلى دليل. فليس جديداً أنّ السعوديّة تُبدي فتوراً ملحوظاً تجاه رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، ولا تنظر بارتياح إلى"التيار الوطني الحر" ورئيسه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، لكنّها ليست في معركة مكشوفة معهما، ولا تذهب في مواجهتهما إلى حدّ "المكاسرة". وذلك على عكس الحال مع "حزب الله" وسائر مكوّنات قوى "الثامن من آذار"، باستثناء رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي لم تتعتكر علاقتها به يوماً نظراً للأدوار التي يضطلع بها وقدرته على تدوير الزوايا واجتراح الحلول عندما تبدو الأمور مستغلقة ولا بدّ من خرق لا يجيد القيام به إلا "الأستاذ"،الذي يُفزَع إليه عندما تصبح المهمّات مستحيلة.

والرياض مرتاحة-على الرغم من انزعاجها من نتائج الانتخابات الأخيرة- لأنّها "شبكت" مع حليفين يمتلكان حضوراً وازناً في المجلس النيابي وشارعيهما: سمير جعجع ووليد جنبلاط، وإنْ كانت صلاتها بالأوّل أكثر متانة ووضوحاً، في ظل الخطوط المفتوحة بينهما والتي لا تشوبها شائبة ولا تحتاج إلى ترميم أو صيانة، على عكس الحال مع "سيد المختارة" الذي وَصَلَت علاقته بها في الفترة الماضية، وقبل زيارته الأخيرة لها، إلى ما يلامس القطيعة.

أمّا "تيّار المستقبل"، فهو الحليف الدائم للمملكة، ولو اعتور العلاقة بين الإثنين في بعض المراحل حالات مد وجزر، سرعان ما تتوقّف عند حدود المصلحة المشتركة، بل الاستراتيجيّة. وبالتالي، فإنّ ما بينهما أعمق وأبعد من أيّ تمايز قد يظهر بين الحين والآخر، لأنّ القناعات المشتركة حيال ملفات إقليميّة عدّة لا تتأثّر بأيّ تباين عابر.

أما موقف الرياض من النوّاب السنّة من خارج "تيّار المستقبل" فيختلف بين واحد وآخر، ولا تتعاطى معهم بـ"الجملة"، بل مع كل حالة بمفردها. وهي مثلاً لا تعتبر رئيس الحكومة السابق النائب نجيب ميقاتي خصماً ولا حليفاً، بل صديقاً يمكن التعاون معه في كثير من القضايا. كذلك الأمر بالنسبة إلى النائب فؤاد مخزومي؛ ولجهة الخلاف مع النائب فيصل كرامي مثلاً فهو لا يرقى إلى حدّ العداء والقطيعة، ويمكن بناء علاقة عاديّة معه. لكنّ هذا الأمر لا يستوي بالنسبة للآخرين كنائب صيدا اسامة سعد وسواه.

"المستقبل" ركيزة الرياض

من هنا يبدو جلياً أنّ "تيّار المستقبل" هو الركيزة السياسيّة الأولى لسياسة "المملكة العربيّة السعوديّة" في لبنان، وألاّ غنى لأحدهما عن الآخر، وأنّ الرئيس سعد الحريري هو الحليف الأوّل والأبرز وأنّ لا بديل له، لأنّه ثبت بالدليل الحسي، أنه على الرغم من الانتكاسات والمشكلات السياسية والتنظيمية والمالية التي أصابت تيّاره في الفترة المنصرمة، يبقى الزعيم السنّي الذي لا ينازعه على زعامته أحد في لبنان، وهي في حاجة إليه وإلى دوره، قدر حاجته إلى دعمها في كل المجالات المتاحة. وبالتالي، فإنّ الرهان على اختلال أو اعتلال في العلاقة بين الرياض وبيت الوسط، هو حتماً في غير محلّه. وأنّ المملكة تَعرِفُ جيّداً أنّ لهامش الحركة لدى الرئيس الحريري حدوداً من الحكمة أنْ يلتزم بها، لأنّ البيئة السياسية في لبنان معقّدة، خصوصاً أنّ هناك قوى وازنة قادرة على إنجاح مسيرته على رأس الحكومة العتيدة وإفشالها إذا شاءت. وهو لا يستطيع أن يُملي عليها ما يرغب في إملائه، لكنه قادر في أيّ حال على إيجاد مساحة مشتركة للتلاقي، ووضع تصوّر لعمل هذه الحكومة يتلافى حقول الألغام، ويساعد على السير مستقيماً وسط الخطوط المتعرّجة.

لم تعد لدى الرئيس الحريري مشكلة حقيقيّة مع الثنائي الشيعي الذي توافق على كل ما يعود إلى تمثيله في الحكومة، حتى باتت أسماء المرشّحين من قبله لدخولها معروفة، كما معظم الحقائب التي ستُعهَد إليهم. وهو يرى ألا عقدة شيعيّة تُصعّب عليه عمله، على عكس ما يصادفه مع الأفرقاء الآخرين، سواء في الوسط المسيحي أو الدرزي، عدا القضيّة المستجدة والمتمثلة بوجود عشرة نواب سنّة خارج كتلة "المستقبل". وبالتالي فإنّ رئيس الحكومة المكلّف يُدرِكُ تماماً أنّ ربط النزاع مع "حزب الله" من دون التصادم معه، هو أقصى ما يمكن أنْ يُقدّمه، لأنّ التلازم القائم بين الحزب و"حركة أمل" يَضيّقُ عليه هامش المناورة والحركة، ويجعله مقيّداً بمعطيات سياسيّة لا يمكن القفز فوقها .

وهذا التعامل "البراغماتي" أزال عن كاهله عبئاً، كان يمكن أنْ يكون الأشد وطأة. والسعودية تعرف ذلك وتتفهّمه، ولو كانت تتمنّى غير ذلك، لكنّه الواقع على الأرض، لأنّ الأحجام هي التي تحدّد إطار اللعبة ومداها.

أما الأسئلة التي تُطرَح حول عدم تشغيل محرّكات التأليف، وحقيقة الموقف السعودي، ونوعيّة العلاقة بين ولي العهد محمد بن سلمان والرئيس الحريري، فقد تكون منطقيّة، لكنّ الأمر يتّصل بنيّات وأهداف من يتولّى إثارتها. فثمّة من يتوسّلها لزرع الشكوك، والوصول إلى خلاصات تفيد أنّ الرياض ترفع "البطاقة الحمراء" في وجه الرئيس المكلّف للضغط في اتجاه تشكيل حكومة لا تعكس تركيبتها نتائج الانتخابات، بل تتجاوزها إلى فرض معادلة جديدة بعيداً من الخريطة البرلمانية الراهنة. وثمّة من يطرحها خوفاً من طارئ قد يَحدُث، يعيد خلط الأوراق، ويزيد المشهد تعقيداً. وغالب الظن أنّ الرئيس الحريري سيَدَع الأمور تأخذ مداها، ويتيح للمواقف أنْ تتبدّى بصورة أوضح، ليمتلك كل جوانب الصورة، فينصرف من بعد إلى معالجة العِقَد بدءاً من أكثرها صعوبة إلى أسهلها، فتسقط المعضلات أمامه كحجارة الـ"دومينو". وهو حريص كل الحرص، ألا يذهب إلى مواجهة مع القوى الرئيسة، ويتمسّك بعلاقته المميّزة والممتازة مع رئيس الجمهوريّة، ويرغب في إرساء علاقات جيّدة مع "التيّار الوطني الحر" تقيه المتاعب، وهو في الوقت نفسه مطمئن إلى علاقته مع الرئيس نبيه برّي الذي يستعين به لدى حصول أيّ مشكلة أو إشكال مع "حزب الله" وسائر مكوّنات الثامن من آذار. ولا يزال يرى أنّ أكثر من قاسم مشترك يربطه بـ"القوّات اللبنانيّة" التي أبقى معها خطوط الاتصال والتواصل، مع الإشارة إلى أنّ العلاقات بين "المستقبل" و"القوّات" فَقَدَت حرارتها وحميميتها السابقة. على أنّ العلاقة مع وليد جنبلاط المتأرجحة بين مد وجزر، لا تشكّل مصدر إزعاج أو قلق له، لأنّه اعتاد التعامل مع جنبلاط ،وهو الأعرف بمزاجه.

إنطلاقاً من ذلك يمكن القول إنّ الرئيس سعد الحريري هو الأقدر حالياً على قيادة حكومة ما بعد الانتخابات النيابية، وهذا ما أفرزته الاستشارات النيابية. ما من طرف تعامل معه بتشنّج وأعراض، وهو سيفعل الشيء ذاته مع كل الأطراف، لكنه سيكون واقعياً في تعامله مع خريطة القوى، من دون أنْ يتعمّد استفزاز أحد أو تهميشه. وسيتصرّف وفق المعطيات المتوافرة بين يديه. وليس من المنطقي القول إنّه يتعمّد التأخير، فهو كان يرغب أنْ تكون ولادة حكومته العتيدة سريعة، لأنّ هناك ورشة عمل كبيرة تنتظر إطلاق صافرة الشروع بها. ولكن ما العمل إذا كانت الشروط والمطالب تَبرُزُ باستمرار، ومن دون توقّع، ما يؤدي إلى شيء من الإرباك.

مواصلة السعي واليأس ممنوع

على الرغم من كثرة المطالبات والشهيّة المفتوحة على الحقائب الخدمية، وتنافس المستوزرين، فإنّ السعي لن يتوقف، والاتصالات ستستمر جهاراً، أو وراء الكواليس. كما أنّ "الطابخين" سيشغّلون "أفرانهم" بأقصى درجة من الحرارة لإنضاج "الطبخة" الحكوميّة، من دون أنْ يغفلوا النصيحة المعهودة "حذار أن تشوشط". هذا الحذر يدخل في حسابات الرئيس المكلف ، لكنه لن يكون مبرّراً للتأخير في إعلان الحكومة العتيدة التي يريد لها أنْ تُبصِرَ النور في المدى المنظور. خصوصاً أنّ هناك من يشيع في حكومة تصريف الأعمال أنّ ولادة الحكومة العتيدة، ستكون بعيد عيد الأضحى، أي بعد شهرين. وهذا ما تستبعده أوساط الحريري الذي عاد إلى بيروت آتياً من باريس حيث كانت له محطة قصيرة التقى خلالها الوزير جبران باسيل الذي صادف وجوده هناك، وذلك بعدما أنهى زيارة له إلى المملكة العربية السعودية.

ومع عودة الحريري، ستأخذ مسيرة التأليف منحى آخر، وتنطلق المساعي بوتيرة مكثفة، وفق قاعدة السرعة لا التسرّع. وقد يفاجأ اللبنانيون بحصول خطوات تُقرّب المسافات وتجعل الوصول إلى الحل أقرب ممّا يتخيّله الكثيرون.

وفي المحصلة سيؤلّف الحريري الحكومة، وسينال كل طرف حصّته (مع حبة مسك بالزايد أو بالناقص)، ولن يكون في الميدان سوى "حديدان"، لأنّه هو الأوّل في طائفته، ولأنّ مروحة علاقاته في الداخل هي الأكثر اتساعاً وامتداداً، ولأنّ علاقاته الدولية-الإقليمية-العربيّة لا تزال الأمتن والأصلب، وبالتالي، فإنّ مقوّمات رئاسة الحكومة ومواصفاتها كلّها تنطبق عليه في هذه المرحلة بالذات.

لذلك فلا غنى للرياض عنه، وهي تعرف في نهاية المطاف أنّ حدود حركته ليست مفتوحة، ولكن الهامش المتاح له ليس متاحاً (حالياً) لأيّ مرشّح سنّي سواه، مما يعني أنّها لا تكلّفه بما لا طاقة له على احتماله. وهو، في الوقت نفسه، يستمد القوّة داخل شارعه من علاقته المميّزة بالمملكة، وبالتالي هناك تلازم يصعب فكاكه، هو نتيجة علاقة تراكميّة ممتدة من مرحلة الأب طُبِعَت بالتعاون الدائم، والتناغم في العناوين السياسية الكبرى.

إنّ المراهنة على تصدّع العلاقة بين المسؤولين السعوديّين والرئيس سعد الحريري، لا سند منطقياً لها، لأنّ واقعية الثاني، ومعرفته بطبيعة الوضع في لبنان، لا تعنيان أنّه يبتعد عن الرياض وخياراتها، بل إنّه يلتزم قواعد اللعبة التي تفرضها تعقيدات المشهد المحلي الذي يزدحم بالأفرقاء المتنازعين بما يمثّلونه من امتدادات وطنيّة وخارجيّة. وإنّ عملية التفهّم المتبادل لظروف الطرفين واعتباراتهما، تُذوّب التباينات لمصلحة التعاون والتنسيق الدائمين بينهما. هذه هي الـ"ريل بوليتيك" بصرف النظر عن الصلات المميّزة التي ترقى إلى زمن طويل.