مهاجرو الحصار الاقتصادي .. إلى أين ؟





مهاجرو الحصار الاقتصادي .. إلى أين ؟

بقلم : مهند قصار

يكثر الحديث في العديد من الدول المتقدمة عن ازدياد أعداد المهاجرين إليها والأثر السلبي الذي تلقي به تلك الهجرات على مجتمعاتها . وعملت أستراليا ، على سبيل المثال ، على توقيع اتفاقية مع ماليزيا تقضي بترحيل المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون شواطئها إلى ماليزيا ، وذلك كرسالة لمن يحاول الهجرة إلى أستراليا بطرق غير شرعية أن الأمر سينتهي به في ماليزيا وربما يرحّل بعد ذلك إلى بلده . وجاءت تلك الاتفاقية عقب ازدياد أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى أستراليا في الآونة الأخيرة ، حسب تصريحات مسؤولي أستراليا ، حيث وصل عددهم إلى 134 قارباً عام 2010 على متنهم 6879 شخصاً .

ومما يثير استياء البعض الطريقة التي تتحدث بها وسائل الإعلام الأسترالية عن أولئك المهاجرين ، حيث تصورهم بأنهم مجرمون قدموا إلى أستراليا ليسلبوها أموالها وليثيروا الشغب في شوارعها دون التطرق إلى ظروف أولئك الذين عرّضوا حياتهم وحياة عائلاتهم للخطر بركوبهم قارباً صغيراً عبر بهم محيطات شاسعة بحثاً عن فرصة حياة آمنة في أستراليا ، وكيف أنهم فضلوا حياة المعتقل في أستراليا على حياة "الحرية" في بلادهم . ويكثر الحديث في الشارع الأسترالي عن ضرورة الحد من أعداد المهاجرين إلى أستراليا بأي طريقة كانت . ويشكل الآسيويون العدد الأكبر من المهاجرين غير الشرعيين إلى أستراليا ، والسبب لا يعود فقط لقرب القارتين جغرافياً ، بل لأن مهاجري أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لا يحتاجون حتى إلى فيزة عبور لوصول أستراليا بشكل نظامي .

وفي يوم من الأيام وجدت نفسي مجروراً إلى حوار مع شاب أسترالي عبّر عن استيائه من قوارب الهجرة غير الشرعية إلى أستراليا وأثرها على الاقتصاد الأسترالي ومستوى معيشة المواطن الأسترالي ، حيث أن أولئك المهاجرين ، حسب تعبيره ، يعيشون على حساب الشعب الأسترالي . فما كان مني إلا الإلقاء باللوم على حكومته التي ساهمت في إفقار وتشريد تلك الشعوب وإغلاق أبوابها أمام أولئك الباحثين عن حياة صحية .

فالعراق مثلاً كان من الدول التي سجلت مراتب متقدمة في مؤشر التنمية البشرية Human Development Index قبل الحصار الاقتصادي الدولي الذي فرضته عليه الأمم المتحدة بقرارها رقم 661 لعام 1990 والذي أودى بالعراق إلى التراجع بشكل مخيف على كافة الأصعدة الاقتصادية والصحية والاجتماعية . فقد كان ترتيبه على لائحة مؤشر التنمية البشرية 50 من بين 130 دولة عام 1988 ، ولكنه انحدر ليصل ترتيبه إلى 106 عام 1995 ؛ ويقيس مؤشر التنمية البشرية إنجازات الدولة في مجالات الصحة والتعليم والناتج القومي المحلي للفرد .

لقد انتهج العالم سياسة الحصار الاقتصادي لإضعاف إمكانيات العراق العسكرية والتنموية والبشرية تحت عدة ذرائع . فقد كان الغرض من الحصار الضغط على العراق لسحب قواته من الكويت ، ولكن الولايات المتحدة لم تنتظر على العراق ليسحب قواته ، بل قادت تحالفاً عسكرياً وأخرجت القوات العراقية من الكويت ، وبالرغم من الحل العسكري ظل الحصار الاقتصادي سارياً بذريعة التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل ، الذي أدى إلى تدمير العراق اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً .

لقد عانى العراقيون الأمرّين من ذلك الحصار الذي حرمهم من الغذاء والدواء ، فضلاً عن كل وسائل التقدم والتكنولوجيا التي وصل إليها العالم في حقبة التسعينات من القرن الماضي ، مما أدى إلى وفاة مليون ونصف مليون طفل نتيجة الجوع ونقص الدواء الحاد وافتقادهم إلى أبسط وسائل الحياة ، حسب إحصائيات وزارة الصحة العراقية . ونتيجة لضعف مواردها لم تستطع الحكومة العراقية الحفاظ على مستوى معيشي صحي لأبناء العراق فانتشرت الأوبئة ومستنقعات مياه الصرف الصحي في الشوراع وانهارت البنى التحتية من محطات توليد كهرباء ومعالجة مياه وغيرها من الخدمات الحياتية الرئيسية .

ولم تكن الحكومة العراقية بعد الحصار قادرة على تأمين رواتب الموظفين الحكوميين فقامت بتسريح ثلثي القوى العاملة ، مما ساهم في زيادة معدلات البطالة وتمزق الحياة العائلية نتيجة ارتفاع معدلات الجريمة والعنف الاجتماعي والرشوة والانتحار والسرقة والبغاء وجنوح الأحداث . وتشير بيانات حركة التشغيل في العراق أثناء سنوات السبعينات والثمانينات إلى أن الاقتصاد العراقي لم يكن يعاني من بطالة حقيقية حيث لم تتعد نسبة البطالة عن3.7 % من إجمالي قوة العمل ، في حين تشير آخر الإحصاءات إلى أن معدل البطالة قد وصل إلى 50% ومعظم ضحاياها هم من الشباب . وقبل الحصار كانت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية أعلى من المعدلات الإقليمية ومعدلات الدول النامية ، إذ بلغ إجمالي الناتج المحلي للعراق 75.5 مليار دولار عام 1989 ، ولكنه انخفض إلى الثلثين عام 1991 . وفي عام 1988 كان دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي 3510 دولارات ، لكنه انخفض إلى 1500 دولار عام 1991 ، ثم انخفض إلى 1036 دولار عام 1998 . وذلك على الرغم من أن العراق صاحب ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد المملكة العربية السعودية ، حيث يبلغ 10.7% من إجمالي الاحتياط العالمي ، أي أربع أضعاف الاحتياطي النفطي الأمريكي .

وقد أدى الحصار أيضاً إلى تدهور مستويات التعليم في العراق ، حيث تشير إحصائيات إلى أن أكثر من 23 ألف باحث وعالم وأستاذ جامعي وطبيب متخصص ومهندس تركوا العراق إبان الحصار لينضموا إلى صفوف العراقيين المغتربين. وذكر تقرير لليونيسيف أن الحكومة العراقية استثمرت مبالغ ضخمة في قطاع التعليم من أواسط السبعينات حتى 1990 ، وكان نصيب التعليم يزيد على 5% من ميزانية الدولة عام 1989 ، أي أعلى من معدل الدول النامية البالغ 3.8% . وبعد الحصار انخفض معدل المسجلين في المدارس إلى 53% بعد أن كان 75% عام 1989 . ونتيجة لعدم قدرة الحكومة العراقية على تأهيل الكثير من المدارس ازدادت أعداد الطلاب في المدارس المؤهلة لتستوعب المدرسة ما يعادل سبعة أضعاف طاقتها الاستيعابية من الطلاب ولتفتح أبوابها للتدريس على مرحلتين صباحية ومسائية . كل ذلك أدى إلى انهيار الإنسان العراقي اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وفرض عليه خيار الهجرة للبحث عن حياة أكثر إشراقاً .

فحين يفرض الغرب حصاراً اقتصادياً على دولة ما فهو لا يعاقب حكومتها بقدر ما يقضى على شعبها ويستنزف بنيته التحتية ويحوله إلى عبد جائع يتطلع إلى فتات الدول العظمى التي تتحكم بقراره مقابل تقديم القليل إلى شعبه . ولا تكتفي الدول العظمى بذلك ، بل وتغلق أبوابها أمام أي مواطن من الدول المحاصرة يبحث عن فرصة عيش في إحدى الدول التي عملت على قهره وأبنائه . لقد استقبلت أستراليا ما لا يزيد عن 700 مهاجر عراقي بين عامي 1986 – 1991 ، في حين تحملت دول الجوار الحصة الأكبر من المهاجرين .

وبالرغم من جميع تلك الحقائق ، يعمل الإعلام الغربي على التعتيم على السبب الرئيسي لهجرة أولئك البشر الذين ليس لهم ذنب في ظروفهم التي فرضها عليهم الغرب إلا أنهم تواجدوا في دول غنية بمواردها الطبيعية التي تُسلب من بين أيديهم وهم يتضورون جوعاً . لقد تناسى منتقدوا سياسات الهجرة أن بعض الدول العظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا قد أوجدها المهاجرون الذين قضوا على الشعوب الأصلية وبنوا فيها مستعمرات تحمل شعارات كبرى كالحرية والديمقراطية . ألم يدرك الإعلام الغربي أن الرئيس الأمريكي الحالي من أصول كينية ؟ هل تناسى الإعلام الأسترالي أن رئيسة وزرائه بريطانية المولد لأب وأم بريطانيين ! أم قد حُكم على سكان الدول المحاصرة بالموت مرتين ، مرة في حضن أمهم وأخرى على أعتاب جلّادهم ؟