وسائل التواصل الإجتماعي والقيم واللغة العربيّة *





وسائل التواصل الإجتماعي والقيم واللغة العربيّة  *

عدنان برجي

مدير المركز الوطني للدراسات - بيروت

أمين الشؤون الخارجية في اتحاد الكتاب اللبنانيين

تتغيّر تقنيّات التدوين والكتابة من عصر الى عصر. اليوم نعيش عصر وسائل التواصل الإجتماعي عبر الهاتف والكمبيوتر وحتى ساعة اليد. انه عصر الضوء بديلا عن عصر الحبر. عصر الشاشة بديلا عن عصر الورق. عصر اللمس بديلا عن عصر القلم.

انها الحقيقة العلمية التي لا مفر منها.

والتغيير لا يتحقق بيسر وسلاسة بل يفرض نفسه، ويولّد قيما ومفاهيم جديدة، ولعل الجميع بات يدرك القيم التي رافقت الثورة الصناعية بإيجابياتها وسلبياتها وتأثيراتها على الفرد والأسرة والمجتمع. لكن  حتى الآن لم تتضح للجميع القيم والمفاهيم التي ترافق ثورة وسائل التواصل الإجتماعي  المذهلة بسرعتها وآفاقها.

لإدراك مدى التأثير الذي تتركه التغييرات اشير الى ما أرسته السينما والتلفزيون خلال القرن الماضي، وكيف اُستغِلّت هاتان الوسيلتان لفرض مفاهيم معينة على المجتمعات من قبل حكومات استعمارية لها اهدافها وغاياتها. أفلم نصدّق جميعا من خلال افلام  هوليود ان الهنود الحمر قبائل متخلّفة لا ضير في ان يقضي عليها الكاوبوي الأميركي ويبني على انقاضها المجتمع الجديد؟.

 ألا نلاحظ الآن ان في  غالبية الأفلام الهوليودية التي تعرضها مجموعة "نتفلكس" مثلا  فيها دور مميز "ليهودي" ما يقوم بما يعجز عنه الآخرون؟.

بالمقابل، هل لأحدنا ان ينكر ان تقنيات وسائل التواصل الإجتماعي تتيح لكل مواطن الدخول الى حيث يشاء ليكتسب المعرفة التي يبحث عنها؟ . وهل لأحدنا ان ينكر سهولة الإتصال بالآخرين اينما كانوا في العالم وبأقل التكاليف المادية والزمنية؟.

اذا كيف لنا ان نوفق بين تحديّات وسائل التواصل الاجتماعي وبين مفاهيمنا وقيمنا واعرافنا؟.

كيف نحمي انفسنا من مثالب هذه الوسائل ونستفيد من حسناتها؟.

اطرح امامكم بعض الأفكار:

التمتع بموهبة الإكتشاف وكيفية الحصول على المعلومة بالسرعة  والدقة والموضوعية.

الرغبة في التعلم المستمر وادراك ان سنوات المدرسة والجامعة ليست اكثر من مفتاح للحياة لكنها ليست الحياة كلها.

 ادراك ان ليس كل ما يُكتب او يُذاع ، وحتى الصورة والفيديو، هو صحيح وحقيقي.  وحده القرآن الكريم مُنزّل وكل ماعداه قابل للمناقشة والقبول والرفض.

ادراك ان الغزو الثقافي اصبح اكثر سهولة على الساعين اليه، وهم كل الأعداء من استعماريين وصهاينة وأصحاب مصالح خبيثة وهدامة. وهؤلاء يتوجهون الينا لاستهلاك ثقافتهم كما نستهلك موادهم وغذاءهم وادواتهم. لقد عجزنا بفضل حكامنا ونتيجة تمزقنا  عن توفير الأمن السياسي والإجتماعي والإقتصادي، ويريدون لنا ان نفقد قدرتنا على توفير الأمن الثقافي، وانتم تعلمون ان الثقافة هي العنصر الأخير في خط الدفاع عن الأمة والوطن والمجتمع.

ان التقنيات الحديثة اوجدت هوة بين جيلين: جيل الورق وجيل الوسائل الالكترونية. هذه الهوّة تزيد من الافتراق الطبيعي في المفاهيم والموروثات بين جيل الآباء وجيل الأبناء. وهنا يأتي دور كل فريق بفهم الآخر. فلا جيل الورق جيل "متخلف"، ولا جيل الوسائل الالكترونية جيل "حضاري". انهما جيلان من طينة اجتماعية واحدة وأبناء حضارة واحدة. لكن النظرة الى الامور مختلفة. والجيلان متباينان في الأساس. جيل الآباء يتطلع غالبا الى الماضي فهو الصفحة المليئة في حياته. وجيل الشباب يتطلع الى المستقبل الذي هو صفحة بيضاء امامه. هذه الصفحة يريد ،او يظن على الاقل ، انه يستطيع كتابتها كما يشاء. فكيف الحال وقد اضيف الى التباين العادي والطبيعي، الإختلاف في وسائل التعبير ووسائل الحصول على المعلومات. الحل يكون بأن يفهم الجيل الجديد الجيل الذي سبقه وان يأخذ عنه القيم التي قام عليها المجتمع دون تزمت او تطرف او غلو.

الحفاظ على الخصوصيات الثقافية التي هي مصدر غنى للمجتمع وللبشرية. يقول المهاتما غاندي:" لا أريد ان يكون منزلي محاطا بالجدران من جميع الجوانب، ونوافذي مسدودة، اريد ان تهُب ثقافات كل الأرض بمحاذاة منزلي وبكل حريّة، لكني ارفض ان انقلب بهبوب اي واحدة منها". ان التحدّي هو ان يكون المرء قادرا على التمييز بين الطيّب والخبيث. وأولى علامات المقدرة هي ثقة كل منا ان كل ما يُكتب او يُقال هو تعبير عن وجهة نظر معينة وبغاية الوصول لهدف محدّد.

ان علينا الا " نُغر بنٌبل مقاصد الغرب الثقافيّة وننسى خبث مقاصده السياسيّة".

ان القائمين على تنفيذ الأهداف الإستعماريّة والغايات الصهيونية لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد على انقاض الأمّة العربية، لا يخفون أهدافهم بضرورة تمزيق النسيج الإجتماعي للأمّة. وهم لذلك يسعون الى تحطيم اللغة العربيّة كونها الجامع الأكبر بين مكونّات الأمة. كما انهم يبثّون الأقاويل والأفلام والدعايات والكتب والمطوّلات الإلكترونية الهابطة، ويسعون لأن نعيش الماضي البعيد كما يقدّموه لنا وليس كما هو حقيقة. كل ذلك ليزرعوا فينا الحقد والبغضاء ويُغلبّون الغريزة فينا على العقل والمنطق والإدراك. من هنا علينا ان نكون حذرين حيال ما يُقدّم الينا من معلومات دينيّة وثقافيّة وتاريخيّة. انه لمن المهم ان ندرك ان التاريخ الحقيقي للشعوب والأمم ليس تاريخ النزاعات على السلطة انما هو تاريخ المساهمة في الحضارة الإنسانية، وحضارتنا العربيّة مجلية في هذا المضمار.

هنا نأتي الى موضوع العلاقة بين وسائل التواصل الإجتماعي واللغة العربية. اين الإيجابيّة واين السلبيّة؟.

لكن قبل الحديث عن العلاقة الإيجابية او السلبية بين اللغة ووسائل التواصل، لا بد من الإشارة الى ان منهج تعليم اللغة العربيّة الذي اعتُمد في لبنان منذ ربع قرن هو منهج يهدف الى تجهيل الطلاب بلغتهم الأم. تقول الدكتورة رجاء نعمه ان " كتب القراءة في التعليم الأساسي تؤسس لعلاقة صعبة مع اللغة العربية فهي تفتقر الى الفائدة والجاذبية والتشويق ولا تنطق بانشغالات التلميذ وميوله". ويصف الدكتور عبد الفتاح الزين القواعد العربيّة في المنهاج نفسه بأنها متشظية، مبتورة، متورمة ومتحجرة. اذا العلّة في عدم اتقان او استخدام اللغة العربية استخداما صحيحا ليس منبعه وسائل التواصل الإجتماعي ولا هي مسؤولة كليا عن تراجع اللغة العربية عند جيل الشباب.

ايضا لا بد من الإشارة الى صعوبة اقناع الأهل بجدوى ان يُتقن ابناؤهم اللغة العربية، فالغالبية من الأهالي يبحثون عن مدارس خاصّة يعتبرونها مرموقة لإدخال ابنائهم اليها في صفوف الروضة ، لأنها  تعلّم جميع المواد باللغة الأجنبية ولا تحظى العربيّة الا بساعاتها المحددة في المنهج  فقط. مع ان الدراسات اجمعت على ضرورة ان يتعلّم التلميذ العلوم بلغته الأم ، وهذه ما تفعله الدول صغيرها وكبيرها، ماعدا لبنان وبعض الدول العربيّة، بكل اسف.

انطلاقا من ثابتة علمية هي ان اللغة الأم هي لغة تكوين واللغة الأجنبية هي لغة تمكين، والتكوين يسبق التمكين، فإنني اتوجه الى الشباب لأن يعمد الى كتابة كل ما يريد على وسائل التواصل الإجتماعي باللغة العربيّة. فالكتابة ممارسة وليست موهبة. اقول ذلك لأنني ادرك الفارق بين فن البلاغة الذي يتقنه الأدباء وفن الكتابة الذي يجب ان يتقنه كل متعلّم.

ان لغة الإعلام ،على سبيل المثال، هي لغة عاميّة مُفصحنة، ولا تحتاج الى تعمّق كبير في اللغة وفي قواعدها. لكن بواسطتها يمكننا التعبير بشكل افضل عن رسائلنا التواصلية مع الآخرين، ثم ان التعوّد على الكتابة يزيد من اتقانها ويرفع من قيمة تذوقها.

انه لأمر محزن ان نجد شبابنا يهجر لغته الأم فيما يُقدم الطلاب الأجانب على تعلمها واتقانها جيدا. في الصين هناك عشرات الجامعات التي تُدرّس اللغة العربيّة. وفي الجامعات الغربيّة يُدرّسون اللغة العربية وكثيرون حصلوا على شهادات الدكتوراة في هذه اللغة من هذه  الجامعات. فكيف للأجنبي ان يُتقن لغتنا ونعجز نحن عن اتقانها؟.

لا بد من التنبيه الى مخاطر استخدام الحرف اللاتيني او لغة الانترنت بديلا عن الحرف العربي،فلكل لغة حروفها وطريقة نطقها فضلا عن ان الحرف اللاتنيني يُفقد اللغة العربيّة جمال شكلها ورنّة موسيقاها فضلا عن عجزه على التعبير الدقيق الذي يقصده كاتب الرسالة. يقول الدكتور هنري عويس ان اللغة تنثر على مستعمليها ثلاثا من بركاتها وهي: الدفء والفرح والإطمئنان. ويضيف من لا يرتدي لغته يشعر بالبرد ويخجل من عُريه.

أخيرا اقول : ان وسائل التواصل الإجتماعي هي مجرد وسائل نتحكم بها ولا تتحكم بنا. بمعنى ان العلّة ان وُجدت تكون فينا وليس بالوسيلة التي نستخدم.

*مطالعة القيت في مؤتمر الشباب الأول الذي نظمه اتحاد الشباب الوطني وملتقى معلمي طرابلس تحت عنوان" وسائل التواصل الإجتماعي لغة الشباب الجديدة". وذلك في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس/ لبنان - بتاريخ 10 /3/2019