عيد القديس أنطونيوس الكبير2020

"... كلام الرب يسوع تعال اتبعني، جعل الكثيرين من الرجال والنساء يتركون العالم ويكرّسون ذواتهم كلياً لله"

رسالة المطران أنطوان- شربل طربيه




"... كلام الرب يسوع تعال اتبعني، جعل الكثيرين من الرجال والنساء يتركون العالم ويكرّسون ذواتهم كلياً لله"

رسالة المطران أنطوان- شربل طربيه

ودخل  القديس أنطونيوس إلى الكنيسة، وسمع كلام الرب بحسب إنجيل القديس لوقا قائلاً للشاب الغني: إذا أردت أن تكون كاملاً إذهب وبع كل ما لك، وتصدّق به على الفقراء وتعال اتبعني (لوقا 18/22(...

نعيش اليوم في كنيستنا ومجتمعنا المسيحي حالة من القلق والخوف  أمام مستقبل فيه الكثير من الضبابيّة وعدم الأمان  إذ يشعر الكثيرون من الأهل والمكرّسين بالخوف من مستقبل قد يؤدي إلى جعل الكثيرين من الأجيال الجديدة الشابّة، يبتعدون عن الكنيسة ويتركون الايمان تحت تأثيرات أمواج التيارات النسبية العاتية والتي ستجرفهم  إلى بحر العلمانية والاستهلاكية الكبير الذي يحيط بالكنيسة وبالمؤمنين من كلّ صوب.

ولا يمكن لنا أن نكون سذّجاً ولا نلحظ  ما حدث ويحدث داخل الكنيسة من صراعات وإشكالات وتضعضع.  ويأتي موضوع التعديات الجنسيّة على الأطفال والقاصرين من قبل بعض الكهنة والمكرّسين ليزعزع صورة الكنيسة ويشوّه رسالتها. ويضاف إلى ذلك الإزدياد الكبير في صفوف القوى المعادية للكنيسة، والتي تقودها صحافة وإعلام يريدون تحطيم الأديان والوصول إلى بناء مجتمع لا مكان للمسيحيّة فيه، من خلال تقويض الأسس المسيحية للمجتمعات والثقافات الشرقيّة الغربيّة.

ومن المعلوم أنه لا يوجد حلولاً سياسيّة لقضايا ثقافيّة وروحيّة. لذلك نعود إلى دعوة القديس أنطونيوس الكبير، لنفهم وبوضوح كلي أن معالجة الأزمات الاجتماعيّة والانسانيّة والايمانيّة لن يكون فقط عن طريق وضع خطط وبرامج وسياسات معيّنة. ولكن من المجدي أن نتعلم من اختبار واختيار القديس أنطونيوس الكبير، الذي قرر أن يترك بيته ويبيع أملاكه ويبتعد عن السياسات الاجتماعيّة والمصالح الآنية، ويذهب إلى البريّة، إلى حياة التقشف والصلاة واكتساب الفضائل الروحيّة  ليكون شاهداً للملكوت السماوي على أرضنا. 

إن الأزمة التي تعيشها الكنيسة وأبناؤها اليوم هي أزمة شهادة في مواجهة  تيار العلمنة والمجتمع الاستهلاكي. وقد نرى أحياناً أن بعض القادة الروحيين يلتجئون إلى القوانين الوضعيّة والسياسات المحافظة من أجل تأمين نوع من الحماية الاجتماعية للكنيسة. وما وصلنا إليه اليوم يؤكد على فشل هذا النهج وهذه الطريقة بمعالجة الأزمة القائمة لأن الحل المنتظر لن يأتي عن طريق تشجيع تيارات سياسية محافظة أو غير محافظة. ومن الواضح أنه لا ضمانة لمستقبل الكنيسة والمسيحيين من قبل الحكومات وأهل السياسة، إنما الضمانة الوحيدة تكمن في اليقظة الروحية عند الأفراد والجماعات الرعويّة، والتي نستوحيها من حياة القديس أنطونيوس، هذه اليقظة تقود حتماً إلى التوبة والعودة إلى جذور الايمان لنعيشه ببساطة وأمانة لتعاليم الإنجيل. وهي بالتالي تحتّم علينا  تغيير جذري في طرق العيش للايمان المسيحي، دون مساومة على الالتزام بالقيم الروحيّة والايمانيّة مهما كلّف الأمر.

إن النهج الرهباني الذي خطّه القديس أنطونيوس إنطلاقاً من كلام الرب يسوع تعال اتبعني، جعل الكثيرين من الرجال والنساء يتركون العالم ويكرّسون ذواتهم كلياً لله، داخل حصن الدير ملتزمين بالقوانبين الرهبانيّة. هذا النهج كان عاملاً أساسياً لصون الايمان والتجدد الروحي، وقاد الكثيرين للوصول إلى أعلى قمم القداسة. إن رهبان القديس أنطونيوس في تقليد كنيستنا المارونية حافظوا على وديعة الايمان داخل جدران الأديار، وحموها من كل انحراف وتشويه، وحملوها إلى الخارج، وبشّروا بها شعوباً مختلفة ورافقوهم على دروب الايمان الصحيح، وعلّموهم كيف يصلّون، وكيف يقرأون وكيف يزرعون الأرض، وكيف يبنون البيوت. لقد رسموا وما زالوا، معالم الثقافة المارونية في كل مكان وصلوا إليه. إن الحياة الرهبانية كانت وتبقى مصدر نعمة وبركة في الكنيسة، ومعها نعود إلى الينابيع الروحية ونجد الرجاء الوطيد في كل مرّة نتأمل بحياة القديس أنطونيوس الكبير. 

إن اضطهاد الكنيسة والمسيحيين ليس بجديد، لأن تاريخها مليئ بأخبار الاضطهادات والشهداء القديسيين والرفضيّة للمؤمنين بيسوع المسيح، الذي سبق وقال لرسله ومن خلالهم لنا جميعاً : "سوف يضطهدونكم كما اضطهدوني" (يوحنا 15/20). هذا يعني أن خبرة الاضطهاد هي ملازمة لحياة الكنيسة، إنما ما يعزينا هو استمرارية الكنيسة رغم كل الاضطهادات والصعوبات والتحديات، والتي كانت تتحوّل مناسبات لتثبيت الايمان وتقويته وازدياد القداسة ونمو الحياة الروحيّة والرهبانيّة. والمسيحيّون اليوم لا بد لهم من أن يتعلموا من تاريخ  كنيستهم، مدركين ان الاضطهاد والشّر و"أبواب الجحيم لم ولن تقوى عليها" (متى 16/18)، فيعتصموا بالرجاء والايمان دون خوف او تردد، وهم يصغون لصوت الرب يسوع قائلاً لهم "أنا معكم لا تخافوا" (متى 28/20(.

في الختام، أريد تهنئة إخوتي الرهبان بدير القديس شربل – بانشبول بهذا العيد المبارك، عيد القديس أنطونيوس الكبير، أبِ الرهبان، وأهنئهم بتجديد النذور الرهبانية  الذي هو اكثر من تقليد رهباني، إنما هو انطلاقة جديدة وسنويّة لعيش الفضائل الرهبانية والمشورات الإنجيلية  على مثال القديس أنطونيوس.

ونصلي في هذا العيد لكي يمّن الله على كنيسته وخصوصاً في هذه الايام بقدّيسين جدداً على مثال القديس أنطونيوس الكبير، ليطلقوا من جديد مسيرة عيش القيم الانجيليّة والمسيحيّة، ويبنوا جماعات ايمان وصلاة، ليكونوا الخميرة في عجين هذا العالم، ويقدموا تقدمة مرضيّة للرب.





 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
حقوق الطبع 2007 - تيميس.كوم الشرق الاوسط